[في المقابلة التالية مع المركز اللبناني للدراسات السياسية، يناقش محرر جدلية زياد أبو الريش تاريخ مؤسسات الدولة في بدايات الاستقلال في لبنان وبعض الموروثات التي خلفتها. وقد أجرت المقابلة عبر البريد الإلكتروني ونشرت على موقع المركز اللبناني للدراسات السياسية.الجزء الثاني من المقابلة يركّز على قطاع الكهرباء ومسائل تتعلق بمؤسسات الدولة في بداية عهد الجمهوريّة اللبنانيّة].
ناقش المركز اللبناني للدراسات مع الدكتور زياد أبو الريش تاريخ مؤسسات الدولة في بدايات الاستقلال
في لبنان وبعض الموروثات التي خلّفتها. الدكتور أبو الريش هو محاضر في مادة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أوهايو ويعمل حالياً على مشروع كتاب بعنوان "صنع الاقتصاد وإنتاج الدولة: الصراع الاجتماعي وبناء المؤسسات في لبنان، 1946-1955". نال شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، حيث أكمل أطروحته حول الموضوع نفسه. طلبنا من الدكتور أبو الريش أن يتحدّث عن اهتماماته التاريخية في ضوء النقاشات الجارية حالياً، وفيما إذا كان للمواطنين اللبنانيين آنذاك وجهات نظر حول الدولة مشابهة لمواقفهم الحالية تجاهها.
دار جدال على مدى السنوات الماضية بشأن الدولة اللبنانية، أو غيابها، من ناحية السياسة العامة، والمصلحة العامة، والتنمية الوطنية. كمؤرخ في مجال تكوين الدولة وبناء المؤسسات في بدايات استقلال لبنان، ما هي برأيك الطرق التي يمكن، ومن منظور تاريخي، أن تساعد في تسليط الضوء على الجدال المعاصر؟
بعد قراءة أبرز المصادر منذ بدايات فترة الاستقلال، سواء الصحف المحلية، أو المذكرات الشخصية، أو التقارير الأجنبية، أتفاجأ دائماً كيف كانت النخب اللبنانية والسكان عموماً منغمسين في عملية بناء دولة ما بعد الاستعمار. ففي العقد الأول للاستقلال، كان للفعاليات الاجتماعية، على اختلافها، مجموعة متنوعة من التوقعات والدوافع تعود في معظمها إلى الإيمان الراسخ بالدور المعياري والتحولي الذي يتعين على مؤسسات الدولة اللبنانية القيام به أو يمكن تأديته لناحية التمثيل السياسي والتنمية الاقتصادية والسلم الاجتماعي. وقد أتت تلك التوقعات والدوافع لتسبق فترة الاستقطاب السياسي والتفتت الاجتماعي والتعبئة الميليشياوية التي ميزت فترة الحرب الأهلية اللبنانية والسنوات التي سبقتها. أنا لا أقصد القول إنها أتت لتنذر بتلك الفترة، لكنها عكست اختلافاً ما أو احتمالا أو بديلاً آخر حتى لو كان ذاك البديل مرهوناً ببعض الأحداث والديناميات والخيارات المحددة.
أعتقد أنه من الأهمية أن نفهم أن المواطنين اللبنانيين الذين عاشوا في العقد الأول من الاستقلال ما كان بوسعهم أن يتوقعوا نشوب حرب أهلية. لذلك، بالنسبة لأشخاص مثلنا يتعاطون مع الحاضر، يهمنا تلمّس أهمية الحرب الأهلية بمعزل عن دمار البنية التحتية و/أو إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية والمؤسسية. علينا أن ندرك أن تجربة الحرب بحدّ ذاتها قد ألقت بظلالها على نظرة الناس في لبنان إلى فترة (أو فترات) ما قبل الحرب، خاصة على ما يسمى"الدولة في لبنان". يجب أن نتوخى الحذر وألا يكون مفهومنا الحالي للديناميات السياسية والاجتماعية والمؤسسية والطائفية وكأنها ثابتة وجامدة، وبالتالي لا بدّ من استرجاع الأحداث وقراءتها عبر تاريخ لبنان.
على سبيل المثال، كان المعنى المهيمن (أو المنطقي) للطائفية بالنسبة للّبناني العادي مختلفاً للغاية بعد العام1958 عما كان عليه قبل ذلك، ناهيك عن فترة ما بعد العام1975 حيث سادت كل من تلك الفترات مجموعة مختلفة جداً من الافتراضات والتوقعات، ناهيك عن تكوين القوى السياسية. كذلك، فإن افتراضاتنا الحالية حول طريقة عمل"الدولة" في لبنان لم تكن هي ذاتها بالنسبة إلى معاصري فترة الاستقلال المبكرة. بعبارة أخرى، معنى "الدولة" في لبنان، أو حتى بناء الدولة والطائفية وطيف واسع من المسارات الأخرى، لطالما اعتمد على أطر متنافسة ومتضاربة وخضع لها.
لذلك، أعتبر أن العودة بالتاريخ إلى الوراء تساعد على تسليط الضوء على الطبيعة المحتملة للهويات السياسية والاستقطاب الاجتماعي ومستويات الاستثمار في الدولة والأمة وغيرها من أشكال تنظيم المجتمع السياسي. إنَ هذا يساعدنا على تجنّب المواقف والادعاءات القاطعة بشأن ما يسمى الفشل في بناء الدولة واستشراء الفساد وعدم جدوى التنمية الاقتصادية الشاملة. مرّ زمن كان فيه نشطاء المجتمع والجماعات السياسية وبعض النخب في الدولة يؤمنون إيماناً راسخاً بمشروع بناء الدولة وهو مشروع يستجيب لاحتياجات الغالبية الساحقة من السكان. ولم يكن ذلك على الإطلاق بسبب غياب المسؤولين والنخب المحلية الفاسدة التي تعتمد على الربح الريعي واستغلال النفوذ السياسي. فتلك الديناميات لم تكن تختلف عن تلك السائدة في أي دولة في بداية مرحلة ما بعد الاستعمار. لذا، فالسؤال المطروح هو حول الشروط والخيارات اللازمة المتعلقة ببناء الدولة بشكل ناجح، بدلاً من الحديث عن الاستحالة المطلقة لقيام مثل هذا المشروع لمجرد أننا نتحدث عن لبنان.
ماهي بعض مؤسسات الدولة المحددة التي تم إنشاؤها في الفترة التي تعكف على دراستها، وماذا يخبرنا التوقيت والسياق الذي قامت فيه تلك المؤسسات عن سبب إنشائها؟
غالباً ما يشير علماء الاجتماع وغيرهم من الذين ينظرون في المؤسسات إلى السبل التي تجعل من البناء المؤسسي عملية سياقية تستجيب للحظات واهتمامات وعمليات تعبئة معيّنة، فيما تنهل في الوقت نفسه من موروثات معينة. وبالنسبة إلى ما يُقال ويُكتب عن لبنان، يسود افتراض (وحتى إشكالية) مفاده أن"الدولة" لم تكن مفهوماً ذا مغزى أو قوة قائمة ضمن المجتمع اللبناني. وهذا الافتراض دفع بمعظم العلماء إلى تجاهل الكثير من المؤسسات التي تؤلّف"الدولة"،ودورها تجاه مختلف المجتمعات، وتاريخها الخاص. ومع ذلك، توجد استثناءات مهمة وبارزة بين الباحثين الذين يدرسون قضية لبنان، وذلك على نحو متزايد.
قبل الاستقلال، تم إنشاء بعض المؤسسات مثل البرلمان، ومكتب رئيس الوزراء، ومكتب رئيس الجمهورية، ناهيك عن مؤسسات أخرى مثل وزارة المالية ووزارة الداخلية. ومع ذلك، شهدت تلك المؤسسات تغييراً كبيراً (ولو متفاوتاً) في أعقاب الاستقلال. علاوة على ذلك، تميزت السنوات العشرة الأولى تقريباً التي تلت الاستعمار في لبنان باستحداث مؤسسات شكّلت مساحة جديدة (أو موسعة) لساسة الدولة. وقد شملت وزارات جديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، وزارة الدفاع ووزارة الأنباء ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التخطيط. وضمّت عدداً من المؤسسات العامة الأخرى الأصغر حجماً مثل الجامعة اللبنانية أو مصلحة الكهرباء والنقل المشترك التي تم إنشاؤها في العام1954 وكانت من بين المؤسسات التي تكوّنت منها وزارة الطاقة والمياه الحالية.
لماذا، على سبيل المثال تم استحداث هذه المصلحة في العام 1954؟ إلى أين تعود أصول نشأة مكوّن المياه للوزارة؟ ولماذا لم تنشأ وزارة الطاقة والمياه إلا بعد عدة عقود؟ للإجابة على كل هذه الأسئلة، لا بدّ من العودة إلى السياقات والتطورات الخاصة بكل من قطاعات الكهرباء والمياه والنقل. وبالتالي يتبين لنا كيف يمكن للتساؤلات حول مؤسسات الدولة أن تكون نافذة نطل من خلالها على تاريخ تلك الجوانب ذات الصلة بالحياة اليومية والتي لا تحظى بالتأريخ الواجب والكافي. وكمثال مضاد، قد يتساءل المرء: لماذا لم تستحدث وزارة مكرّسة حصراً للصناعة إلا بعد فترة طويلة في مسار بناء المؤسسات. وفي الوقت نفسه قد يتساءل المرء أيضاً عن طريقة التعاطي بشؤون الصناعة (أي التصنيع) في غياب مثل هذه الوزارة.
من المؤكّد أن كل هذه المؤسسات التي أنشئت جديداً (أي ما بعد الانتداب) نهلت من موروثات الانتداب الفرنسي. لكنها استجابت أيضاً للسياق القائم في ظل الاستقلال والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في لبنان في ذلك الوقت. على سبيل المثال، لا يمكن للمرء أن يفهم توقيت استحداث وزارة الأنباء بدون أن يقدّر بشكل صحيح محاولة البيروقراطية اللبنانية تعزيز استقلال البلاد وقيام الائتلاف الحاكم بتوطيد مناصبه. وتتجلى هذه المحاولات في تكاثر الصحف والكتب المنشورة وتنامي تأثير الراديو كتكنولوجيا اتصالات ومجموعة متنوعة من التطورات السياسية الحساسة مثل تعبئة العمال والصحافيين الأجانب وإلى ما هنالك.
بالنظر إلى أقوى مؤسسات الدولة في بدايات استقلال لبنان، هل كانت في غالبيتها نتاج الانتداب الفرنسي أو كانت الدولة اللبنانية آنذاك قادرة بمفردها على إقامة مؤسسات قوية وموثوقة تقدم الخدمات للمواطنين على نحو ملائم؟ بعبارة أخرى، هل إن فشل/ضعف المؤسسات اللبنانية اليوم هو في معظمه نتيجة للحرب الأهلية، أم أن المؤسسات الحكومية لم تتمتع يوماً بدور قوي أو بقدرات كافية في لبنان المستقل؟
هذا سؤال مهم حقاً وهو يتطلب وقتاً أطول مما هو متاح في هذا النقاش. برأيي، لا وجود لنمط محدد من المؤسسات التي تشكّلت على يد الانتداب الفرنسي وأظهرت في أدائها كفاءة أو فعالية أكبر من تلك التي تم إنشاؤها بعد الاستقلال.يكفي أن ننظر إلى دور وزارة الأنباء ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التخطيط لتقدير "قدرة" المؤسسات التي أنشئت في أعقاب عمليات الجلاء الفرنسي، وقد لعبت هذه المؤسسات الثلاث دوراً هاماً في رسم المجال السياسي والتعبئة الاجتماعية المصاحبة له. من ناحية السببية، هذا يتوقف حقاً على مستوى التحليل الذي نريد الانخراط فيه. على سبيل المثال، وبناءً على عمل بعض الباحثين البارزين (مثل رينود ليندرز Reinoud Leenders) أظن أن"ضعف" مؤسسات الدولة اليوم سببه ديناميات الحرب الأهلية وتسويات ما بعد الحرب ولا يعود إلى أيّ من القدرات المؤسسية الكامنة في لبنان.
على صعيد آخر، لم تمارس مؤسسات الدولة يوماً في لبنان الدور الذي مارسته مؤسسات مماثلة في دول مثل سوريا ومصر والعراق أثناء الفترات الدولتية (statist periods) في تلك البلدان. بيد أن هذا "الفشل" المحدد (والنسبي) يرتبط باحتمالية تشكّل الدولة الاستبدادية وبالتنمية الاقتصادية الشعبوية التي حصلت، أكثر من أي "مشكلة" متأصلة في مؤسسات الدولة في لبنان. هذا الكلام لا يسعى إلى تمجيد الماضي اللبناني الذي يزخر ولا شك بخصوصياته وإشكالياته. ومع ذلك، فإذا أردنا مقارنة لبنان في أوائل فترات الاستقلال بسوريا ومصر والعراق خلال فترة بناء دولها الاستبدادية، سنكون كمن يقارن التفاح بالبرتقال. لكن، إذا قارنا لبنان في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات بسوريا ومصر والعراق خلال الفترة نفسها، من المرجح أن نرى نقاط تشابه من حيث قدرات الدولة وسياساتها وخطاباتها أكثر مما يريد أن يعترف البعض؛ ومجدداً، على الرغم من الموروثات والحالات الطارئة والصراعات الاجتماعية الخاصة بكل بلد. لذا هذا السؤال يبرز تجاهل حقيقة جلية عند مناقشة الوضع في لبنان. هل إن مفهومنا للفشل/الضعف يرتبط بتاريخ لبنان الخاص أو بتاريخ الدول الأخرى التي عرفت مسارات مختلفة كل الاختلاف؟ لقد حان الوقت لنكرّس الاهتمام اللازم لبحث وتحليل الفترة الاولى لاستقلال لبنان بحدّ ذاتها.
إن جزءاً كبيراً من الذاكرة الشعبية والتحليل التاريخي للبنان يدَعي أن الدولة قد مارست دوراً ثانوياً في التنمية الاقتصادية عبر التاريخ الحديث للبلاد. كيف تؤكّد البحوث التي قمتم بها على هذه النظرة إلى علاقات الدولة والسوق أو كيف تشكّكون فيها؟
أدت مؤسسات الدولة اللبنانية دوراً محورياً في التنمية الاقتصادية. يجب أن أوضّح أنني لا أقصد القول إن لبنان شهد مرحلة تنمية اقتصادية بقيادة الدولة. ما أعنيه هو أن فكرة لبنان كاقتصاد مفتوح مع سياسة عدم التدخل، واقتصاد قائم على الخدمات، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ مؤسسات الدولة، وكانت في حد ذاتها نتاج مناقشات وصراعات وسياسات طبعت بدايات فترة الاستقلال. وأعني ذلك بطريقتين: أولاً، السياسات المحددة للدولة هي التي أتاحت نشوء العديد من الديناميات الاقتصادية التي يرى المراقبون أنها تتمتع بملامح التنمية التي يقودها السوق أو القطاع الخاص. على سبيل المثال، إن الدور الذي لعبه لبنان كمركز للتجارة الوسيطة لم يكن ليتحقق لولا دور مؤسسات الدولة في إدارة صرف العملة اللبنانية والعرض النقدي وتوسيع شبكة الطرق في البلاد وبناء مطار بيروت ومواصلة تحديث الموانئ. شهدت جميع هذه المؤسسات نقاط تحول حاسمة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. ثانياً، لقد كانت الاتفاقات التجارية التي فاوضت عليها الحكومة مكوّناً أساسياً للدور الناشئ التجاري العالمي والاقليمي الذي لعبه لبنان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالتجارة لا تجري بشكل تلقائي؛ وهي تتطلب وجود شركاء وبنية تحتية قانونية وتبادلات ومرافق. كما أن أبرز الاتفاقيات التجارية التي عقدت مع عدد من الدول العربية وغير العربية تمت خلال فترات الاستقلال الأولى. إلى الآن، لم يتم سرد تاريخ هذه الاتفاقات أو تحليله خارج الفكرة الساذجة التي تعتبرها مجرّد حتمية. وبالتالي، لا بدّ لنا من الابتعاد عن المفهوم الحصري لتدخّل الدولة في الاقتصاد ومماثلته بالتنمية الاقتصادية التي تقودها الدولة على الطريقة المصرية والسورية، والاستعاضة عن ذلك باستكشاف الطرق المحددة التي سلكتها مؤسسات الدولة في صنع هذا الاقتصاد نفسه الذي نقول عنه أن "غياب" الدولة هو الذي حدّد ماهيته. ثمة مراحل محدّدة مارست فيها مؤسسات الدولة دوراً مباشراً وتدخلياً في الاقتصاد بالمعنى الواسع للكلمة. وقد انطوى على دعم بعض السلع الأساسية وتأميم بعض القطاعات واحتكار بعض الأنشطة. في لبنان، يمكن النظر إلى دور الدولة في دعم أسعار القمح والوقود، أو حتى التحولات في القاعدة الضريبية للموازنة اللبنانية (أي التحولات في الأنواع والمبالغ الضريبية التي تجمعها الحكومة).
في الفترة الزمنية التي تركزون عليها في بحثكم، إلى أي مدى برزت دعوات شعبية لتحسين خدمات الدولة و طرق تقديمها؟ كيف يمكن للمرء مقارنة مستوى المشاركة أو الاهتمام في خدمات الدولة بين تلك الفترة وفي يومنا هذا؟
يعيدني هذا السؤال إلى ما قلته سابقاً حول مستوى الاستثمار النخبوي والشعبي في مشروع بناء الدولة والتنمية الاقتصادية في أوائل فترة الاستقلال. وعند العودة إلى أبرز المصادر المتاحة عن تلك الفترة، غالباً ما يصطدم المرء بطيف واسع من الجماعات السياسية والحركات الاجتماعية والمناسبات العامة وجميع أنواع المطبوعات التي تعالج بصورة مباشرة مسألة الخدمات التي تمولها وتديرها الدولة، أو انعدامها. في أي حال، يمكن وصف بدايات زمن الاستقلال بالفترة التي ركّزت فيها السياسات الرسمية وغير الرسمية على سؤال رئيسي واحد: "الآن وقد تحقق استقلالنا، ماذا سنفعل به؟" وقد تمحورت الأجوبة عن هذا السؤال حول دور الدولة في تقديم خدمات معينة، سواء كانت عامة مثل المياه والكهرباء أو غيرها من الخدمات مثل التعليم والرعاية الصحية وحماية المستهلك. أما بالنسبة إلى مقارنة مستوى مشاركة الجمهور، فلست متأكداً من مدى الفائدة من ذلك نظراً إلى وجود مجموعة متنوعة من العوامل النظرية والمنهجية.
من الواضح اليوم وجود درجة كبيرة من التشاؤم والسخرية تجاه الحكومة ودور مؤسسات الدولة في إحداث تغيير حقيقي في حياة المواطنين اليومية. وفي هذا الصدد، أود ببساطة الرجوع إلى ما أشرت اليه سابقاً حول المطالبات لاسترداد الحقوق. فمشاركة الجمهور اللبناني والتزامه خلال فترة الاستقلال الأولى كانت تنبع من الايمان الراسخ بالدور التحويلي والمعياري الذي قد تلعبه مؤسسات الدولة في مجال الخدمات العامة والتنمية الاقتصادية. يكفي النظر إلى الحملة العامة ضد شركة كهرباء بيروت في أوائل الخمسينيات، حيث دعت تلك الحملة الحكومة إلى تنظيم الأسعار الاستهلاكية ناهيك عن تأميم قطاع الكهرباء باعتبارها الوسيلة الفضلى لحماية كل من المصالح الوطنية للدولة اللبنانية ورفاهية المواطنين في حياتهم اليومية.
ما هو المنطق الجغرافي/المكاني الذي اتبعته عملية تقديم/تطوير الخدمات خلال الفترة الزمنية التي درستموها؟ هل كانت تركّز على العاصمة (أو بالمعنى الأوسع، على المدن الرئيسية)، أو أنها كانت أكثر توازناً من الناحية المناطقية؟ كيف تصف دور البلديات خلال هذه الفترة من حيث التنمية؟
هذه فعلاً أسئلة ممتازة تظهر ضرورة تجاوز الروايات السياسية والاقتصادية التقليدية حول تاريخ لبنان. لا شك في أن تقديم الخدمات برعاية الدولة في بدايات الاستقلال تمحور حول منطق الانحياز للمناطق الحضرية ولمدينة بيروت. بيد أن هذا التقييم أيضاً يحتاج إلى مزيد من التحديد والدقة. فبيروت، على سبيل المثال، كانت تتمتع بمجموعة كبيرة من خدمات المرافق العامة مثل المياه والكهرباء وخدمة الترام. وبالمثل، لم تكن المناطق الريفية كلها مهملة بالمستوى نفسه، سواء قمنا بتحليل هذا الإهمال نوعاً أو كماً. فقد كان البقاع وعكار وجبل عامل ثلاث مناطق ريفية مختلفة جداً، تلقت أشكالاً مختلفة جداً من تدخل الدولة والرعاية والتخطيط، والأمثلة على ذلك تشمل الري والكهرباء وبناء الطرقات، ناهيك عن الخدمات الصحية
والتعليمية والتجنيد العسكري الطوعي.
حتى أن المسح العقاري وتسجيل الأراضي في تلك المناطق اتّخذا مسارات مختلفة للغاية. ففي حين أننا قد
نكون على الطريق الصحيح في فهمنا العام للإهمال في الريف والتحيز للمناطق الحضرية والتركيز على بيروت، إلا انه لدينا الكثير لنقوله بصفتنا باحثين ومحللين سياسيين. ويمكن قول الأمر نفسه عن دور البلديات في بدايات الاستقلال. ولعل أبرز مجموعة من القوانين التي غالباً ما تمّ إدخال إصلاحات عليها في تلك الفترة هي القوانين الخاصة بإنشاء البلديات وإدارتها وتمويلها جنباً إلى جنب مع شبكة العلاقات القائمة بينها؛ وفي خضمّها، العلاقة القائمة بين البلديات ومنصب المختار والمحافظ، فضلاً عن انتخاب أشخاص على الصعيد الوطني أو تعيينهم لهذا المنصب أو ذاك أو في وزارات مختلفة. مع ذلك، على الرغم من وجود بعض الدراسات في اللغة العربية، لم نفهم تماماً بعد كيف دعوا إلى ما نسميه اليوم "المركزية" أو "اللامركزية" والتي تجلّت في فترة الاستقلال الأولى، على الرغم من الإشارات المتكررة إلى هذه المصطلحات وحتى إذا كانت تعني أشياء مختلفة آنذاك.
ماذا عن الطائفية ودورها في أوائل فترة الاستقلال؟
تعطي فترة الاستقلال الأولى معلومات هامة بشأن هذه الديناميات. ومن الأهمية، كما ذكرنا أعلاه، أن ندرك أنّ معنى الطائفية في تلك الفترة يختلف كلياً عمّا نفكر به اليوم. صحيح أن الناس يتذكرون العنف الطائفي العائد إلى القرن التاسع عشر، لكن يبدو أن قلة قليلة من الناس لديها فكرة عن الطائفية توازي ما تجلّى خلال الحرب الاهلية (1975-1990) أو بعدها. وهذا أمر مهم لعدة أسباب. أولاً، لا بدّ من الاشارة إلى أن مبدأ التمثيل الطائفي ناقشه في العلن سياسيون ومحامون والعديد من المجموعات الأخرى باعتباره إجراء مؤقت (وغير دائم). ومهما كان رأينا بنزاهة تلك الادعاءات، علينا أن ندرك أنه على الأقل، من حيث مستوى الخطاب الرسمي، لم يكن يُنظر إلى المحاصصة الطائفية كعلّة وجود الدولة. وأكثر من ذلك، فقد برزت دعوات متكررة لوضع حد للممارسات الطائفية، سواء على مستوى بيروقراطية الدولة أو محاكم الأحوال الشخصية. فالصفحات الأولى للصحف في تلك الفترة كانت تفيد عن حصول إضرابات وحملات احتجاجية تندّد بممارسات التوظيف على أساس الطائفة والخلافات الطائفية في إدارة قضايا الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث وغيرها.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الأحزاب السياسية القائمة على أسس طائفية لم تكن بالضرورة مهيمنة أثناء تلك المرحلة، ولم تكن طائفية على النحو الذي هي عليه اليوم. على سبيل المثال، إن الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية كانا يمثّلان التجمعات السياسية القائمة على النخب المهيمنة، والتي كانت مدخلاً للعديد من الائتلافات والاحزاب الاصلاحية التي عطلت بشكل دوري هذه الثنائية السياسية. حتى حزب الكتائب الذي كان خارج السلطة قبل العام 1958، كان شعبوياً أكثر في مطالبه، وكثيراً ما سعى إلى التحالفات الاستراتيجية المؤقتة مع مجموعات سنية مثل النجّادة والنداء القومي، ناهيك بالطبع عن الحزب الشيوعي أو الحزب التقدمي الاشتراكي، قبل الانشقاق عن هذا الأخير والانضمام إلى صفوف حزب البعث وغيره من الأحزاب.
إن هدفنا من خلال تسليط الضوء على هذه الديناميات ليس خلق رؤية طوباوية ومثالية عن الماضي وإنم الإشارة إلى التطورات التاريخية التي لا تتناسب الحكمة المكتسبة بشأن بداية فترات الاستقلال، وهي بالتالي لا تخضع حتى للتحقيق. لقد شهدت فترة الاستقلال الأولى تعبئة سياسية حيث قامت تحالفات طائفية تشكّك في فرضياتنا حول كيفية تعريف المواطنين اللبنانيين عن أنفسهم وعن مصالحهم وحلفائهم وخصومهم بغض النظر عما إذا كانت هذه التجارب قد فشلت في نهاية المطاف أو خرجت عن مسارها أو أكملت طريقها إلى نهايتها المنطقية المزعومة. لا أقصد القول إن الطائفية كانت معدومة. ببساطة يمكن القول بأن مظاهرها كانت مختلفة. في الواقع، أعتقد أن أحد أكثر المجالات التي تفتقر إلى التحقيق فيها في تاريخ لبنان هو عمل الطائفية خلال فترات الاستقلال الأولى.